المستشار - دراسة قانونية حول نشاط المرفق العام في الأحوال والظروف العادية، وفي الأحوال والظروف الإستثنائية وقيادة الجيش اللبناني كمثال - بقلم المحامي وليد نورالدين الخطيب


دراسة قانونية حول نشاط المرفق العام في الأحوال والظروف العادية، وفي الأحوال والظروف الإستثنائية وقيادة الجيش اللبناني كمثال

 

إن نشاط الدولة يقوم أساساً على احترام مبدأ المشروعيةPrincipe de la légalité ، مما يوجب معه عدم الخروج عن النص القانوني النافذ، لأن هذا الخروج عن النص يتعارض مع المبدأ الأساس، ونعني به مبدأ المشروعية، والذي يعني بمعناه الواسع وجوب خضوع الحاكمين والمحكومين للقانون على السواء، أو بمعنى آخر، على الدولة مبدئياً، بكافة مسؤوليها والمخاطبين بالقانون فيها، وعلى مختلف مستوياتهم، الإلتزام بالقانون، الذي هو الأساس في القاعدة القانونية. ويكون من الأجدر تبعاً لذلك، أن يلتزم كافة المخاطبين بالقانون، وعلى مختلف مراتبهم ومستوياتهم بالنظر في الموضوع المطروح عليهم على قاعدة احترام القاعدة القانونية الآمرة، لا انتهاكها، كما يحصل فيالعديد من المواضيع أحياناً،بإعتبار أنه وكما قيل أن  “القانون سيد العالم “ كما عرّفه شاعر الثورة الفرنسية Mirabeau عندما قال:

Le droit est le souverain du monde

وبما أنه على كافة المخاطبين بالقانون إذن، ولا سيما من بابٍ أولى المسؤولين في الدولة إحترام القواعد القانونية والإلتزام بها، وتطبيقها وفقاً لما حدده النص القانوني لها، بتجردٍ مطلق، لأنهم مبدئياً، الجهة الحامية للقانون بإعتبار أنه وكما قال العلاّمة هوريو: لا حكم للقانون في أي مكان بغير سلطة تحميه:

"Nulle part le droit ne règne sans le secours du pouvoir "

(Maurice HAURIOU, Droit Constitutionnel, P. 253)

وهذا يعني كما أكّده الفقه الإداري أصلاً وجوب:

".... خضوع جميع السلطات العامة في الدولة للقانون بأن تتقيد السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية على السواء في جميع التصرفات والأعمال التي تصدر عنهم بالقانون وأحكامه،الأمر الذي يؤدي الى خضوع الحاكم والمحكوم للقانون على السواء ".

( أستاذنا المرحوم الدكتور محسن خليل في مؤلفه: القضاء الاداري ورقابته لأعمال الادارة، منشورات دار النهضة العربية، بيروت 1972، ص. /9 / ).

كل ما تقدم هو من حيث المبدأ. وبالتالي يتعين الإستنتاج مما جاء أعلاه أن على الدولة بكافة مؤسساتها أحترام النصوص القانونية التي وضعتها استناداً الى القاعدة اللاتينية القائلةPatere legem quam ipse fecisti.

هذا وقد إستمر الفقه الاداري مؤكداً في هذا الصدد أنه:

" لا قيمة ولا قوة للهيكلية السياسية والاجتماعية للتنظيم الاداري في بلدٍ ما، مهما بلغت درجة التقدم فيه، إلا إذا كان محكوماً بسلطان القانون. فتصنيف المجتمعات بين راقية ومتخلفة، مرتبط بشكلٍ مطلق، بخضوعها او عدم خضوعها  لمقتضيات الشرعية القانونية التي تجسّدها  احكام الدستور والقوانين والمبادىء العامة للقانون واجتهادات القضاء وسائر الأنظمة العامة. وعلى حد تعبير الاستاذ " دافيد ":

" المجتمع المنظّم هو ذلك الذي تكون الضمانة فيه سيادة الحق والقانون ".

La société bien organisée est celle on se trouve établie et garantie la suprematie, The Rule of Law

R. DAVID “ le dépassement du droit et les systèmes  de droit contemporin, in archives de philosophie de droit et de sociologie juridique,1963, p.4 

( مقالة للدكتور يوسف سعدالله الخوري بعنوان " القرار الإداري النافذ وحق الدفاع عن النفس، مجلة القضاء الاداري في لبنان، العدد الثاني 1986، ص.9 )

إلا أنه من الطبيعي والمتعارف عليه أن لكل مبدأ إستثناءاته،

ونظراً للوضع الحالي الراهن في البلاد والذي يتسم بأوضاع داخلية مضطربة ويتصف خارجياً ببشائر حرب إن لم نقل أنه فعلاً حالة حرب، وما لأثر الحرب من ارتدادات قد يصعب معها تطبيق النصوص القانونية كما هو الأمر في الأحوال العادية، خاصةً وأنه لا يمر يوم منذ بدايات الصدام الحاصل اعتباراً من 7 تشرين الاول 2023، بين حركة حماس والعدو الاسرائيلي في فلسطين المحتلة، إلا وله انعكاسات من جراء ذلك على البشر والحجر في لبنان وعلى الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة من جهة تخصيصاً، وكافة أرجاء الوطن اللبناني بأكمله والعالم من جهةٍ ثانية.

وبما أن مبدأ المشروعية وكما أسلفنا هو المنطلق والأساس الذي يتعيّن على المرافق العامة الإلتزام به. إلا أن هناك أحياناً ظروفاً وأحداثاً قد تعترض سير عمل المرافق وتحول دون إمكانية تطبيق وسريان النصوص القانونية بشكلٍ طبيعي ومحتوم. ذلك أن الواقع العملي للأمور قد يقف أحياناً حائلاً دون إمكانية الإلتزام بهذا النص القانوني أو غيره من النصوص، الأمر الذي يوجب معه إيجاد الحل المناسب للظرف الاستثنائي الذي يعترض سير عمل هذا المرفق العام أو ذاك، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر الوضع الواقعي والقانوني للجيش اللبناني، خاصةً في ما يعود لإقتراب موعد إحالة قائد الجيش العماد جوزيف عون على التقاعد لبلوغه السن القانونية بعد اشهرٍ قليلة، بعد أن أحيل اساساً منذ فترة قريبة على التقاعد رئيس الأركان اللواء أمين العرم لبلوغه السن القانونية أيضاً، وبالتالي شغور أهم مركزين في قيادة الجيش ونعني بهما، قائد الجيش، ورئيس الأركان، وما ينتج عن ذلك من فراغ يصيب القيادة العسكرية وكافة عناصرها في الصميم بضربةٍ قاسمة بشغور أهم مركزين في قيادة  الجيش يعتبران مصدر الحركة والتوجيه وحق الإمرة لكافة العاملين  في الجيش وما إليه، خاصةً في ظل الأوضاع السياسية والعسكرية والاجتماعية المستجدة. ومع خطورة الوضع من جراء ما يحدث نجد أن المسؤولين بمعظمهم يتهافتون متسارعين ليزيدوا الطين بلّة بأن يمعنوا في التباعد عن بعضهم البعض إرضاءً لهذا السياسي أو ذاك تاركين حبل الادارة على غاربه بعدم إتخاذ القرارات اللازمة لمعالجة الاوضاع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الجيش اللبناني بكامله إرضاءً لنزواتهم ومكانتهم واوضاعهم السياسية على حساب الوطن والادارة، بدل أن يتراكضوا في هذا الظرف العصيب ليرأبوا وحدة شمل القيادة الوطنية والصف الوطني وسد الشواغر في كافة الادارات العامة وبالأخص في الجيش، لمواجهة الظروف الطارئة  ويبرهنوا بأنهم ساسة مسؤولون يجمعون ولا يفرقون، هدفهم في عملهم لا خدمة من كان له الفضل في تبوأهم مركزهم، وإنما خدمة الدولة وتأمين أكبر قدر ممكن للوطن من  حسن سير المرافق العامة فيه بالشكل الذي يؤمن أستقرارها وفقاً لما هو مفروض.

  • لذلك بدايةً يتعيّن الإشارة الى أنه من حيث المبدأ جاء في المادة 66 من الدستور:

"... يتولى الوزراء إدارة مصالح الدولة، ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين، كلُ بما يتعلق بالأمور العائدة الى إدارته وبما خصّ به ".

وما هو واردٌ أعلاه لا يعني أن للوزير الحرية المطلقة في تسيير الأمور، إنما عليه تسيير وزارته وفقاً للأسس القانونية والأنظمة النافذة بالإضافة الى مبادىء القانون العامة والدستور،والتي ما وضعت إلا لضبط الأمور إستناداً للقاعدة القائلة بأن " السلطة المطلقة مفسدةٌ مطلقة " وعلى هذا الأساس وضعت القوانين حدوداً للجميع، إذ سئل الحكيم الصيني كونفوشيوس: ما هو أول عملٍ تقوم به إذا أصبحت رئيساً لهذه البلاد فأجاب: " أقوم بتحديد الكلمات ". أي أن هناك حداً لأي كلمة او معنى. ووضع الإطار لكل كلمة هو الذي يبرز أبعادها. فالوطنية تفرض بذل النفس في سبيل الوطن والعمل، بصدقٍ لا تكسّب، لإنجاح المقاصد والافعال للوصول الى الخطط المرسومة. ويكون البذل مضاعفاً حين يكون هناك أزمة وطنية كما تعيشها البلاد حالياً، لا أن يبدّل الغالي بالأرخص، والثمين بالأبخس. ذلك أن للرئاسة وللقيادة مواصفات لا يستطيعها من هو أصغر من كرسيها لأنه ان كان كذلك  فيأخذ منه وينقص مكنوناته، وإنما يتعين أن يكون أكبر من كرسيها فيعطيه من ذاته ويغني مكنوناته.

إزاء ما تقدم، ونظراً لأن مركزقيادة الجيش سيفرغ قريباً، يتعين أن لا يعمد المسؤولين الى تغليب مهاتراتهم وخياراتهم الشخصية ووضعها على رأس اولوياتهم بل عليهم أن يتسارعوا لسد الثغرات وتلافي الشغور الحاصل او الذي قد يحصل في مراكز هامة ومنها على سبيل المثال لا الحصر( رئاسة الجمهورية، قيادة الجيش، رئاسة الأركان ) وغيرها من المناصب الهامة التي شغرت أو قد تشغر، لأسبابٍ متعددة، وذلك حفاظاً على الوطن والمواطن على السواء. وهذا الأمر هو من صميم واجباتهم، والمفروض أن يكون أول إهتماماتهم، الأمر غير الحاصل، والذي ينعكس بالوطن إنحداراً  على كافة المستويات، بشكلٍ لم تشهده البلاد من قبل، والذي يرتب مسؤولية يفترض ان تكون لها الأولوية في إطار تصورهم للحكم الرشيدGood governance ، إن كان ما زال هناك من يحترم هذا المبدأ.

وإذا دخلنا في العمق والتحديد أكثر للشغور، نجد أن الوقت الحالي هو وقت إستنفار، خاصةً للقوى العسكرية والأمنية وبوجه أخص الجيش وقيادته بالذاتوالذي نحن بحاجة إليهما اليوم أكثر من أي يومٍ آخر، وتتزايد هذه الحاجة بتزايد خطورة الوضع بكافة وجوهه، حيث يعتبر التهاون والإهمال فيها مدعاةً للمساءلة ليس المسلكية فقط وإنما قد تصل الى المساءلة الجزائية في حال أطلق المسؤول حبل إهماله على غاربه، وهو ما أشار اليه رئيس مجلس الوزراء في رسالته الى وزير الدفاع، ( والذي الأمل فيه بأن يتعالى ويتسامى عن كل ما يمكن أن يعيق الجيش في القيام بواجبه، وذلك إنطلاقاًمن مناقبيته العسكرية التي كان معروفاً بها أثناء خدمته العسكرية) بتذكيره بضرورة سد الشغور الحاصل في وزارته، ويعتبر ذلك من أهم واجبات رئيس مجلس الوزراء، إنطلاقاً من صلاحيته الدستورية لأمرين إثنين:

الأول:

ما جاء في المادة 64 من الدستور المعدلة بالقانون الدستوري الصادر بتاريخ 21/9/1990 من أن:

 " رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم بإسمها ويعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء. وهو يمارس الصلاحيات التالية

1- يرأس مجلس الوزراء ويكون حكماً نائباً لرئيس المجلس الأعلى للدفاع........

7- يتابع أعمال الإدارات والمؤسسات العامة وينسق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل......".

فيكون ما قام به رئيس مجلس الوزراء في تذكير وزير الدفاع الوطني، من صميم مهماته وواجباته الدستورية، وإن القول بغير ذلك، او كما اوردته بعض وسائل الإعلام المغرضة وهو غير صحيح أصلاً، من أن هذا الكتاب او الرسالة من رئيس مجلس الوزراء الى وزير الدفاع الوطني هو من نوع العتب لكي لا يعتبر عدم معالجته للوضع في الادارة التي يرأسها بتأمين وضع اهم مركزين في قيادة الجيش في ادارته من خلال إتخاذ الإجراءات الكفيلة بذلك، وهذا الطرح

(اي الاشاعات والتحليلات المنوّه عنها) هو إما من باب الجهل بمقاصد الأمور، أو هو لإذكاء باب التفرقة في محاولة لتهشيم الوطن وتحطيم أركانه المتداعية، كما يقال، لغايةٍ في نفس يعقوب، الأمر الذي يوجب عدم الأخذ بها، وتغليب المصلحة العامة على كل ما عداها.

الثاني: أن من يعيش في ذهنية الماضي، تجاهل قصداً أو جهلاً او سهواً، ما استجد من تعديلات دستورية فرضت نفسها، وأصبحت واقعاً قانونياً لا يجوز التفلت منه أوالتنكر له لأن سمو الدستور واعتباره القانون الأساسي يوجب إهمال كل ما يتعارض معه، سواءً أكان نصاً قانونياً او فقهياً او اجتهاداً أو رأياً، ولا يرقى الى درجة النفاذ أمامه. ذلك أن مجلس الوزراء أصبح هو الأساس كسلطة إجرائية حيث أورد استاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية الدكتور زهير شكر في مؤلفه: الوسيط في القانون الدستوري اللبناني ، 2001، ص. 700 ما حرفيته:

"... والثنائية التنفيذية الفعلية والمتساوية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لم تعد موجودة في النظم البرلمانية، بإعتبار أن الحكومة هي التي تتحمل بشخص رئيسها المسؤولية السياسية أمام البرلمان، وهي في الوقت نفسه الممثلة للأكثرية البرلمانية، ولذلك فإن رئيس الحكومة وليس رئيس الجمهورية هو الذي يمارس السلطة الاجرائية بالتعاون مع الوزراء. وهذا الواقع الدستوري يسمى في نظم البرلمانية الثنائية التنفيذية اللامتساوية لصالح رئيس الحكومة ".

إذن هذه السلطة الإجرائية تكون قد انتقلت بالتعديل الدستوري الحاصل الى مجلس الوزراء، الذي أصبح وعلى الأساس المتقدم ذكره مؤسسة دستورية يتأمن من خلالها مشاركة كل التيارات والطوائف في السلطة التنفيذية، ولرئيس مجلس الوزراء سلطة التنسيق والتوجيه فيه وفقاُ لما تنص عليه المادة 64 المنوّه عنها اعلاه .

من هذا المنطلق، وخارج الإعتبارات السياسية ومقاصد السياسيين، وإنطلاقاً من الواجبات الدستورية الصرف، يكون موقف رئيس الحكومة هو من قبيل التذكير والتنبيه حفاظاً على نفسه وعلى وزرائه أيضاً، خاصةً أنه ذكّر بالمادة 70 المعدلة من الدستور وهو معني بالمساءلة فيها قبل وزير الدفاع الوطني، لا بل اول المعنيين فيها إذ جاء نصها كما الآتي:

لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بإرتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم ولا يجوز أن يصدر قرار الإتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع اعضاء المجلس. ويحدد قانون خاص مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية ".

ومن العودة الى الواقع العملي والقانوني في ظل الظرف الاستثنائي الحاصل في الجيش من شغور حاصل في قيادة أركانه والمتوقع في مركز القائد قريباً لا بد من النظر في الموضوع على اساسأن الظروف الإستثنائية تتطلب قرارات إستثنائية

Les circonstances exceptionnelles exigent des décisions exceptionnelles

فالمرافق العامة خاضعة أصلاً للقوانين المرعية الإجراء من حيث المبدأ، ولعددٍ من القواعد الأساسية التي تفرضها الإعتبارات العملية والعدالة والإنصاف، ومن أهمها مبدأ سير المرافق العامة بصورة طبيعية وبإضطراد

Principe du fonctionnement contenue et normal du service public

هذا وقد أكّد الإجتهاد الإداري هذا المنحى عندما إستقر إجتهاده في هذا الإطار على الآتي:

"... للسلطة العامة في معرض مواجهتها لمشاكل وأوضاع مرافقها العامة أن تتخذ قرارات وإن كانت مخالفة للقانون تأميناً لإستمرارية المرفق العام"

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 659 تاريخ 16/5/1996 )

وبما أن الإجتهاد الإداري قرر هذا التوجه، وهو بقضائه أساساً رقيب على الإدارة أصلاً، فذلك يعود الى أن المصلحة العامة والتي تتمثل في استمرارية المرافق العامة التي توجب أن تكون هذه الاستمرارية في المرتبة الأولى عند تقرير الأمور لأنه يتعيّن على الجهة التي تدير المرفق العام عند الأزمات وتسهيلاً لحسن سير هذا المرفق والذي يفترض تسييره على قاعدة الادارة الرشيدة المتقدم ذكرها، تأمين المعطيات التي تبقيه مستمراً، حتى وإن كان ذلك خلافاً للقانون وبما يتوافق مع المبدأ ذو القيمة الدستورية، ونعني به مبدأ إستمرارية المرفق العام والذي تمّ الإشارة إليه أعلاه، ووجوب حسن سيره، تلافياً للعراقيل على الصعيدين الواقعي والقانوني التي قد تحول دون إمكانية سيره واستمراره من جهة، وبالتالي تكون هذه العراقيل تقف عائقاً في وجه المصلحة العامة بالذات من جهةٍ أخرى. هذه المصلحة التي تعتبر حجر الرحى  Pierre angulaireفي النشاط الاداري العام، وهو ما أجمعت عليه العديد من المراجع الفقهية والاجتهادات القضائية على اختلاف تنوعاتها ( دستورية، إدارية، عدلية ) وبما مفاده، أن للسلطات العامة ولضرورة إستمرارية المرفق العام، وتأمين المصلحة العامة، حق مخالفة القانون عند الإقتضاء، إذا إقتضى الأمر ذلك، منها على سبيل المثال لا الحصر نظرية الموظف الفعلي او الواقعي Fonctionnaire de fait التي إبتدعها مجلس الدولة الفرنسي، وإستند اليها الاجتهاد الإداري، وعلى الأخص مجلس شورى الدولة اللبناني في أكثر من قرار له لا سيما عند ما يسمى بحالة الضرورة عندما أورد في هذا الصدد:

"... وبما أن الفقه والإجتهاد يسلّمان بأن عيب عدم الإختصاص يكون مغطى بسبب حالة العجلة   Urgenceأو بسبب نظرية الموظف الواقعي أو الحكومة الواقعية وهي نظرية ترتبط بالظروف الإستثنائية.... ومن شأنها أن تخوّل سلطة غير مختصة أن تقرر محل السلطة المختصةوأن تستمر سلطة منتهية ولايتها في ممارسة مهامها، كما من شأنها أن تضفي صفة الشرعية على قرارات صادرة عن أشخاص غريبين عن السلطة الإدارية المختصة والعاجزة عن القيام بمهامها.

" وبما أن نظرية الموظف الواقعي كما الحكومة الواقعية تجد مبررها ومرتكزها في مبدأ إستمرارية المرفق العام شأنها شأن أي موضوع يتطلب إعمال هذا المبدأ عليه إنطلاقاً من مبدأ ديمومة الدولة:

N: 1094, Précisions complémentaires.  L’incompétence peut au contraire se trouver couverte en raison de l’urgence ( v.1102) ainsi que….. lié à l’existence de “ Circonstances exceptionnelles “ de la théorie de fonctionnaire de faitElle est de nature à autoriser une autorité incompétente à décider à la place de celle qui était compétente et même des personnes étrangères à l’administration ( n” 1100.3e ).

Enfin, elle ( la théorie des circonstances exceptionnelles ) ouvre aux administrés la possibilité de se substituer aux autorités ( administratives ) défaillantes et de prendre des mesures que seules normallement elles auraient pu édicter.

R. Chapus, droit administratifgénéral , tome 1, 8”ème édition

…. La législation dans quelques cas, la jurisprudence d’une façon plus générale ont dégager et appliquer ce qu’on est convenu d’appeler la théorie des fonctionnaires de fait …

C’est une théorie qui donne une grande importance aux apparences (…) Enfin, ……un fonctionnaire et même un gouvernement désinvesti peuvent continuer à exercer en fait leurs fonctions pour expediter ce que l’on est convenu d’appeller les affaires courantes ( AES. 4 avril 1952, syndicat régional des quotidiens d’Algérie, p. 210, g a p. 375 R.ODENT, contentieux administratif, 1970-71, p. 1413 ).

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 456 تاريخ 11/5/2005 )

وكما تبين اعلاه، إن إستمرارية المرافق العامة واجبة وضرورية وتعلو أي مبدأ عام آخر، وبالتالي ونظراً لأهمية المرفق العام الذي يجسّده الجيش في حماية البلاد والدفاع عنها داخلاً وخارجاً، وهو الذي يمثّل عصب القوة والمنعة في الوطن، وانعكاس بعض مهماته وفعاليته على نشاط المجتمع اللبناني بكامله، مما يوجب معه بل ويفرض العمل بكافة الوسائل الممكنة وغير الممكنة من أجل إبقاء هذا المرفق العام الحيوي والضامن لشرف الوطن والمواطن على كامل مساحة البلاد، حيوياً وحامياً وفاعلاً ومؤثراً ومستمراً بكامل جهوزيته متأهباً لممارسة دوره الفعال في كل مناسبة تحت قيادةٍ حكيمة برهنت منذ تسلمها القيادة وحتى تاريخه، وفي أحلك الظروف، عن خبرة عسكرية عالية وحافظت على الجيش برموش العين ليبقى متماسكاً متضامناً لإداء رسالته ومهامه والحفاظ على المبدأ الأساس ونعني به إستمراريته على الوجه المطلوب ووفقاً لما قرره الإجتهاد الاداري كما تقدم، شأنه شأن أي مرفق عام آخركما وصفه الإجتهاد الدستوري الذي قرر في هذا الصدد:

"... عملاً بالمبدأ الدستوري القائل بضرورة إستمرارية المرفق العام ".

( قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم/1 / تاريخ 6/8/2005 )

الأمر الذي يحّتم تأمين ظروف وأحوال واستمرارية هذا المرفق الهام والحيوي، بالشكل الطبيعي واللازم الآن أكثر من أي وقتٍ آخر، ووفق ما تتطلبه الظروف وتقتضيه الأحوال سواءً على ضؤ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الضاغط في الداخل، ومن حيث التحديات الملقاة على عاتقه في الدفاع عن الوطن في كافة الأحوال المنوّه عنها آنفاً لينتظم ادائه وانضباطيته واقعاً وقانوناً:

"... بما أن تأمين سير المرفق العام يتطلب إنتظام أدائه..."

( قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم /2/ تاريخ 16/3/2017)

وقد أوضح الفقه الدستوري هذا التصوّر فأورد في هذا الصدد:

من المسلّم به بداهةً أن المهمة الأساسية للسلطة الادارية هي تأمين إستمرارية وحسن سير المرافق العامة خدمةً للصالح العام في شتى الظروف وفي كل زمان ومكان، وهذا ما يبرر بحد ذاته إمتيازات السلطة العامة Les prérogatives de la puissance publique، وهذه الامتيازات تتمتع بها الدولة وسائر أشخاص القانون العام، ويجعل في الوقت ذاته كل عمل لا يصّب في هذه الخانة، غير شرعي ومستوجباً الإبطال.... ومن مقتضى ذلك أن أي انقطاعٍ أو إحتجابٍ أو امتناع لهذه المرافق عن تحقيق هذه الغاية يشكل ظرفاً مميتاً لا يجوز السماح به وإلا انعدمت الحاجة الى أي مبرر لوجود الدولة بالكامل.

من هنا كان مبدأ الإستمرارية الذي هو على حد تعبير رجال الفقه الإداري باكورة المبادىء العامة التي أطلقها القضاء الإداري وتحديداً مجلس الدولة الفرنسي (Conseild’Etat) منذ بداياته .

أنظر في ذلك:

R. ODENT, contentieux administratif , 1976-1981, p. 1710

لذا، فإنه كان ولا يزال هذا المبدأ، يعتبر المبدأ الأكثر أهمية، لا بل حجر الزاوية  Pierre angulaire  في بنيان المبادىء والقواعد الأكثر تحرراً وإنفتاحاً في القانون العام.

من هذا المنطلق وصفه مجلس الدولة الفرنسي بالمبدأ الجوهري

Le principe fondamental, C.E., 13L6L1983 BONJEAN REC.p. 274 ETC)

وكما حدده مجلس شورى الدولة اللبناني، أنه من مبادىء القانون العام الأساسية

 ( شورى لبنان 3/12/1962، م.إ. 1963، ص.286...).

وسار المجلس الدستوري اللبناني على خطى زميله الفرنسي فأكّد المقام الدستوري لهذا المبدأ في أكثر من قرار له بالموضوع.

( أنظر مثلاً مجلس دستوري لبناني قرار رقم 4/ 2000 تاريخ 22/6/2000، مجموعة المجلس الدستوري 1997- 2000، ص.407 و 450 ).

من هنا، ومن أجل ضمان هذه الاستمرارية التي هي إذاً  أساس وعلة وجود السلطة العامة أمس واليوم وغداً، ولدت من رحم هذا المبدأ، وعلى يد الإجتهاد نظرية الظروف الإستثنائية، وما يتفرّع عنها من روافد مثل نظرية الموظف الواقعي والحكومة الفعليةوغيرها..."

(  الدكتور يوسف سعدالله الخوري، في مقالته بعنوان: " الظروف الإستثنائية والقانون الدستوري المنشورة في الكتاب السنوي للمجلس الدستوري للعام 2013، ص. 183 ).

ومن العودة الى ما أشار إليه أعلاه الدكتور الخوري بشأن موقف المجلس الدستوري اللبناني في قراره المنوّه عنه آنفاً أعلاه رقم 4/2000، نجد أن هناك تطابقاً متماثلاً في المواقف مع المجلس المذكور ومجلس شورى الدولة الذي جاء في اجتهاده:

"... وبما أن المرفق العام المختص يقدّم خدمة عامة للمواطنين فهو مرتبط بالحاجات العامة الأساسية ويجب أن يبقى بالتالي خاضعاً لرقابة الدولة بحيث يراعى في إستثماره وادارته احترام المبادىء ذات القيمة الدستورية، ومنها استمرارية المرافق في اداء الخدمة.."

وبالإضافة الى ما تقدم أوضح مجلس شورى الدولة وبصورة واضحة وجلية هذا التوجه بقوله:

:... إن تطبيق مبدأ إستمرارية المرافق العامة بإنتظام وإضطراد يؤدي الى إستقرار الأوضاع الإدارية في المرافق العامة...".

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 14/92-93 تاريخ 1/11/1992 )

وكل ذلك لأن هناك ظروفاً إستثنائية أملت هذا الموقف وحالت دون سير عمل هذا المرفق الهام( الوضع الواقعي والعملاني والحيوي للجيش اللبناني) بالشكل القانوني والواقعي. ومن غير المقبول، بل من غير الجائز وقف سيرعمل هذا المرفق بواقع تخاذل السلطة السياسية وتهاونها عن سد الشغور فيه خاصةً في قيادته وهي الرأس المدبر له والذي يصبح بدونها جسداً بلا رأس وهو أمرٌ ليس فقط غير مقبول، وإنما هو في العلم العسكري مرفوض، خاصةً في ظل هذه الأوضاع الأمنية والعسكرية الجاثمة على صدر الوطن حالياً، والتهاون في تلافيها، ولأي سببٍ من الأسباب التيقد تصل ليس فقط الى الاهمال والتخاذل فقط، ولكن ربما تصل الى درجة تهدد وحدة الجيش بل وكينونيته نظراً لأهميته الحساسة جداً  كمرفق عام حيوي في أيام السلم والحرب على السوا،، خاصةً في ظل هذه الأوضاع الراهنة, الأمر الذي يبرر وجوب إتخاذ تدابير إستثنائية عاجلة وسريعة لبقاء استمراريته بالشكل الطبيعي وبصورة دائمة ومتواصلة، من أجل تأمين وخدمة المصلحة العامة التي تبقى فوق كل إعتبار، وذلك بضرورة تأمين الوسائل الكفيلة بإتمام واجبه الإداري والقتالي على السواء بالإبقاء على قيادته بالتمديد لها او بتأجيل التسريح، إستناداً للظرف الإستثنائي الحاصل ، حتى ولو كانت تتعارض مع النصوص القانونية والانظمة المرعية الاجراء، وهي ليست كذلك  بإعتبار أنه من المتفق عليه علماً وإجتهاداً أن وسائل الإدارة في الظروف العادية، تختلف عن تلك المتخذة في حالات الظروف الإستئنائية، أو في حالات الضرورة، وفقاً لما أكّده الفقه الدستوري بقوله:

"...فإن مقتضيات الصالح العام والإحتياجات الضرورية الآنية يجب أن تتقدم على هاجس التقيد الحرفي بالنصوص وغائية المؤسسات وحسن سيرها، يجب أن يتغلبا على التمسك المفرط بالشكليات، فتسمو المشروعية الشعبية العامة (La ligitimitéعلى المشروعية القانونية العادية ((La légalité ويتقدم المفهوم المؤسساتي على حرفية النصوص..."

( الدكتور يوسف سعدالله الخوري، المرجع السابق، ص. 192 )

خاصةً وأن الإختيار لمنصب القيادة لا يصح ان يتحدد بالشكليات العادية التي قد تضر بالمصلحة العامة عند الإرتكاز على تلك الشكليات دون غيرها بإعتبار أن قيادة الجيش توجب ان يكون لشخصية القائد دوراً يميزه عن اقرانه الآخرين من المرشحين للمنصب والقائد الحالي أثبت جدارته المميزة وخبرته منذ أمدٍ طويل. ولا يجوز المخاطرة بالنجاح او الفشل في هذا الوقت بالذات، لأنه وكما جاء في مؤلف لأحد الأدباء الفرنسيين، وهو Antoine de saint-Exupéry عندما أورد في احد مؤلفاته أن الإدارة ليست مصممة لحل المشاكل الجديدة، فإذا تم ادخال قطع من الخشب في آلة التشكيل فلن يخرج أي أثاث

Une administration n’est pas conçue pour résoudre des problèmes neufs. Si dans une machine à emboutir, on introduit des pièces de bois. Il n’en sortira point des meubles

Antoine de saint-Exupéry- pilote de guerre

الأمر الذي يوجب معه إذن الأخذ بالإعتبار شخصية الضابط، التي بالإضافة الى الشروط الشكلية المفروضة لإنتقائه، يتعيّن أن تكون متوفرة فيه أيضاً الخبرة والتمرس في القيادة والإمرة، بالإضافة الى  إمكانياته القيادية المتميزة، نظراً لحساسية ودقة مركزه، إذ أن هناك فارقاً كبيراً، خاصةً في السلك العسكري بين وظيفة القائد ووظيفة المدير، فالأول يفترض بأن يكون مبدعاً بإبتكاره طرقاً يتميز بها ويتحمل مسار النتائج بتوجيهها الى الأفضل، والذي تظهر مهارته بنجاحه في وضع الخطة العسكرية واعدادها وتنفيذها بل وتحمّل نتائج هذا التنفيذ، بالإضافة الى أنه يجب أن يكون متميزاً في بث روح الحماسة والمناقبية في روح ونفسية كافة مرؤوسيه وغير ذلك من الأمور التي يعود للإدارة أمر تقديرها والتي لا توجد اصلاً في كل من وصل الى هذه الرتبة او تلك بإعتبار أن العامل الشخصي يلعب دوره في إختيار القائد لمميزاته الشخصية وبالتالي ليست الرتبة هي المرتكز. اما المدير فيعود اختياره لذات الشروط ولكن بصورةٍ أقل لأسباب لا مجال للتوسع فيها في هذا المجال للعودة الى القول بأن سير المرفق العام هو الأساس ويجب ان يبقى مستمراًوقد أكّد الإجتهاد الدستوري ما جاء في الفقه المتقدم ذكره أعلاه، ليشير حرفياً بالآتي:

"... وبما أنه في الظروف الإستثنائية تتولد شرعية إستثنائية يجوز فيها للمشترع أن يخالف أحكام الدستور والمبادىْ الدستورية او القواعد ذات القيمة الدستورية وصوناً لمصالح البلاد العليا...".

( قرار المجلس الدستوري رقم 1/97 تاريخ 12/9/1997)

ولا بد من الإشارة هنا الى أن نظرية الظروف الإستثنائية التي تتطلب قرارات استثنائية كما ورد آنفاً، هذه النظرية لم تأتِ من لا شيء، وإنما جاءت من رحم حالة الضرورة L’état de nécessité ، الأمر الذي يجيز للسلطات العامة قياساً، وعند تحقق حالة الضرورة، وطيلة فترة الظروف الاستثنائية الطارئة، أن تلجأ الى وسائل قانونية إستثنائية لمواجهة الأزمات التي تعترضها، والتي لا يمكن للمشروعية العادية أن تجد حلاً لها:

L’état de nécessité est une notion juridique qui consiste à autoriser une action illégale pour empêcher la réalisation d’un dommage plus grave.

الأمر الذي يعني أن حالة الضرورة، والتي انطلقت من القاعدة الرومانية المعروفة: Salus populi supreme lex، والتي تعني بأن " سلامة الشعب هي الشرعة الأسمى " والتي تبناها فيما بعد فقهاء القانون العام واعتمدها الإجتهاد القضائي حلاً إستثنائياً هاماً لمبدأ المشروعية العادية وهو ما يسمى بالمشروعية الإستثنائية Légalité exceptionnelle التي لا تحول دون سير الأمور وفقاً للواقع المستجد الذي فرضته تلك الضرورة التي لا تجد حلاً لها في ظل تلك الشرعية القانونية العادية والتي لا تلبي متطلبات الظرف الإستثنائي الطارىء الذي يتطلب حلاً إستثنائياً، وهو ما أكّده مجلس شورى الدولة الذي إستقر إجتهاده في أكثر من قرارٍ له على أنه:

"... في الظروف الإستثنائية .... فإنه يحق للسلطة الإدارية، ويجب عليها، أن تتخذ التدابير اللازمة لتلافي المحاذير، حتى لو أدى ذلك الى تجاوز قواعد الإختصاص وحتى لو أدى ذلك الى إصدار تشريع يعود أمر إصداره طبيعياً الى السلطة الإشتراعية..."

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 175/93  فارس شبلي/ الجامعة اللبنانية )

وفي قرارٍ آخر له أكّد المجلس المذكور ما يلي:

"... وحيث إذا كان من المسلّم به أنه عند قيام الظروف الإستثنائية تطبق " الشرعية الإستثنائية " الناتجة عن توسيع صلاحيات السلطة الإدارية وتحريرها من القيود القانونية..."

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 245 تاريخ 17 آذار 1975)

واللافت في تعدد وجهات النظر القانونية وتضاربها في مسألة تعيين قائد الجيش او التمديد للقائد الحالي او تأجيل تسريحه أن وجهات النظر هذه أخذت بمعظمها بالواقع العادي للأمورلسببٍ أو لآخر، ولم تأخذ بواقعة شغور الموقع الأهم في الدولة مثلاً، ونعني به رئاسة الجمهورية، ومن ثمّ قيادة الجيش وغيرها من المراكز العليا الحساسة، وأن هذه الآراء بمعظمها في محلها الصحيح لو كانت المشروعية العادية هي الحالة. أما في ظل الوضع الطارىء الحاصل فهي محل نظر بإعتبار أن نظرية الضرورة والظروف الإستثنائية حاليا هي السائدة والتي يتعيّن إعتمادها نظراً للوضع السائد والسير فيها حفاظاً على المصلحة الوطنية العامة، ووفقاً لما قرره الفقه والإجتهاد الأنف الذكر.

وما تجدر الإشارة إليه أن هذه الإجتهادات القانونية المبدئية، لا يمكن التنكر لها من أيٍ من السلطات الإشتراعية ام الإدارية على مختلف مستوياتها وحتى القضائية، او الباحثين في العلم القانوني،وسواءً في القانون الدستوري أم القوانين العادية والأنظمة المرعية الإجراء،أو الأخذ بخلافها لأنها ملزمة سنداً للقانون ولقوتها القانونية الإلزامية والآمرة، ذلك أن المادة 13 من قانون إنشاء المجلس الدستوري رقم 250 تاريخ 14/7/1993 جاء فيها:

"... تتمتع القرارات الصادرة عن المجلس الدستوري بقوة القضية المحكمة وهي ملزمة لجميع السلطات العامة وللمراجع القضائية والإدارية...".

هذا فيما يعود للمجلس الدستوري،

 أما فيما يعود لمجلس شورى الدولة، فقد جاء في المادة 93 من نظام المجلس المذكور الصادر بالمرسوم رقم 10434 تاريخ 14/6/1975،أنه:

أحكام مجلس شورى الدولة ملزمة للإدارة، وعلى السلطات الإدارية أن تتقيد بالحالات القانونية كما وصفتها هذه الأحكام...".

الأمر الذي يحول دون الإعتداد بأي رأي آخر يتعارض مع مبدأ إلزامية الأحكام الصادرة بالحالات القانونية المطروحة للبحث والتي كرّستها الأحكام الصادرة عن الاجتهاد الاداري، والتي لم يأتِ الفقه القانوني على خلافها. بل ووجوب التقيد بهذه الحالات القانونية الواردة فيها على ضؤ ما قررته الإجتهادات الدستورية والإدارية المتقدم ذكرها. وبالتالي يكون كل ما يتعارض مع هذه القواعد القانونية الآمرة مدعاة رفض لأنها تجبّ ما يتعارض معها وبالتالي يتعين إهمالها في مواجهة النص الصريح والواضح والقرار القضائي الملزم. حتى تأكّد هذاالمنحى الذي ذهب إليه الفقه والإجتهادين الدستوري والاداري بشأن الظروف الإستثنائية، بالإضافة الى ما تقدم بيانه بأنه:

"... وحيث أن الإجتهاد المستمر يعتبر أنه في حال حدوث ظروف إستثنائية Circonstances exceptionnelles ، تتحرر السلطة من وجوب إحترام الحريات العامة التي يكرسها القانون...".

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 1227 تاريخ 1/8/1963، المجموعة الادارية للعام 1964، ص. 45)

وبالتالي، وبما أن القوانين والأنظمة النافذة والفقه والإجتهاد الإداريين، ووفقاً لما تقدم ذكره، جاءت جميعها لتؤكد أنه لا يمكن أن تقف الإدارة مكتوفة الأيدي مكبلةً بنصوصٍ لا يمكنها مجاراة الظروف الإستثنائية التي تعيشها وانتظار زوالها لحين العودة بعد ذلك الى تطبيق والتزام النص القانوني النافذ الذي كان قاصراً عند حدوث الظرف الإستثنائي عن معالجة الوضع، حيث يتوجب على الإدارة إزاء ذلك، وبهدف تأمين سير المرفق العام وإبقائه منتجاً بخدماته بالشكل المطلوب والأفضل، إتخاذ التدابير الآيلة الى تأمين هذه الإستمرارية على الدوام وبإضطراد. وقد جاء في هذا الصدد:

La théorie des circonstances exceptionnelles à été consacré par un arrêt Heyries du Conseil d’Etat rendu le 28 juin 1918. La théorie des circonstances exceptionnelles consiste à admettre que dans certains conditions, des trés graves urgencies politiques sociales.Le pouvoirexécutif peut s’affranchir du respect intégral et pointilleux de la loi àfin de préserver les services publics et les intérêts de la nation. Dit autrement, les circonstances exceptionnelles sontune condition mais aussi un excuse pour appliquer un régime de la légalité d’exception des actes administratifs en temps normal illégaux deviennent légaux en raison des circonstances exceptionnelles…”

( Norbert Foulquier, la théorie de circonstances exceptionnelles, p.1)

ومع أنه لا مجال للتساؤل بعد كل هذه المعطيات عما إذا كان الظرف الإستثنائي متوفراً في موضوعنا بالذات أم لا، وهو متوفر حقيقةً، نضيف نفعاً للقانون، أنه من العودة الى الرأي الإستشاري الصادر عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل بتاريخ 11/7/1979، يتبين أنها حددت شروطاً أربعة لوجود الظروف الإستثنائية هي:

  1.  أن تتسم بطابع إستثنائي مهم يختلف عن مجرد الضرورة البسيطة.
  2.  أن تكون السلطة غير قادرة على مواجهة تلك الظروف بالطرق القانونية العادية.
  3.  ان يكون تصرف السلطة في هذا المجال من أجل تأمين المصلحة العامة ضمن ما تقتضيه الحالة الإستثنائية.
  4.  أن لا يمتد تصرف السلطة الإستثنائي الى خارج الفترة الزمنية التي تسودها الظروف الإستثنائية.

يراجع:

Auby et Drago: Traité de contentieux administratif, tome III, N~1136.

Encycl. Dalloz, Droit Administratif, tome I, p. 323 “

من هنا يتبين أنه، متى توفرت الظروف الإستثنائية يصبح بإمكان سلطة إدارية أن تتجاوز بإختصاصها على إختصاص سلطة ادارية أخرى، ويكون عملها المتخذ في هذا المجال مبرراً بالظروف الإستثنائية ومتسماً بالشرعية والقانونية اللازمتين في ظل الواقع المستجد الذي لا يمكن للمشروعية العادية حله، وهو ما أكده الإجتهاد بقوله:

"... فالتدبير موضوع البحث أملته الظروف الإستثنائية المحققة أركانها حفاظاً على السلامة العامة، والإجتهاد مستمر على القول أن الظروف الإستثنائية تحل الإدارة من وجوب مراعاة القواعد والقوانين والأنظمة ...".

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 1227 تاريخ 1/8/1963 المنوّه عنه آنفاً )

إذن، الهدف من تدابير الضرورة والظروف الإستثنائية، على إختلافها سواءً أكانت تشريعات او قرارات ادارية تسمى تشريعات او تدابير الضرورة ضماناً لحسن سير المرافق العامة. 

وبما أن الظروف الإستثنائية متوافرة في حالتنا الحاضرة كما أشرنا آنفاً، بحيث انها تنصب على وضع مرتبط بأهم مرفق عسكري هام يحتاجه الوطنوهو الجيش، خاصةً في هذه الظروف العصيبة والحرجة على الصعيدين الداخلي والخارجي التي تهدد الوضع الوطني والأمني بكافة مجالاته، والذي يتعين أن يكون في أعلى جهوزيته على كافة الصعد لمواجهة الأوضاع المتدهورة في الوطن وعلى مداه، وبالتالي يتعيّن على السلطة التنفيذية أو الإجرائية معالجة الوضع الحالي بالنسبة اليه على ضؤ ما استقر عليه الفقه والإجتهاد إستناداً لنظرية الظروف الإستثنائية المتوفرة في حالتنا الحاضرة، وذلك من خلال إتخاذ تدابير إستثنائية لعجز القوانين النافذة والسارية في الأحوال العادية من مجاراة واقع الوضع الإستثنائي الطارىء في البلاد. وهذا التوجه أكّده  مجلس شورى الدولة في الرأي الإستشاري الصادر عنه برقم 371 /2021- 2022 تاريخ 29/9/2022 وموضوعه: " مشروع مرسوم يرمي الى تعديل تعريفة بعض الرسوم الجمركية وفقاً للنظام المنسق حيث يهمنا ما ورد فيه لجهة الظروف الإستثنائية من أنه:

"... من ضمن الاستثناءات على قواعد الصلاحية تأتي نظرية الظروف الاستثنائية التي يمكن تطبيقها على اساس حالة الضرورة او في حالة الظروف الطارئة. فنظرية الظروف الإستثنائية  La théorie des circonstances   exceptionnelles هي نظرية قضائية تعتبر بموجبها بعض التدابير الادارية الخارقة للقواعد القانونية العادية وغير الشرعية في الظروف العادية، شرعية في بعض الظروف وذلك لأنها تبدو حينذاك ضرورية لتأمين النظام العام وحسن سير المرافق العامة، وفي مثل هذه الظروف تحل محل الشرعية العادية شرعية إستثنائية تستفيد السلطة الادارية في ظلها من تمدد وتوسع في الصلاحيات لم يلحظه القانون أصلاً...".

وإذا كان الأمر كذلك للفرد في السلطة، فلا شك أنه وفقاً لنظرية الضرورة والظروف الإستثنائية، تكون الإباحة للسلطة طبعاً أوسع وأنفع مما ابيح للفرد، إذ تصبح قرارتها المتخذة في ظل تلك الظروف شرعية لكونها ضرورية لحفظ الإنتظام العام، تأميناً لحسن سير المرفق العام إستثناءً،  وحتى لو كانت تعتبر في الأحوال العادية غير شرعية، حيث  جاء :" في مطالعة مفوض الحكومة في قرار صادر عن مجلس الدولة الفرنسي عام1913 إنه يجب على الحكومة تأمين إستمرارية المرفق العام بكل الوسائل المشروعة المتاحة لها.

فإن أعمال السلطة التي تعتبر غير شرعية في الظروف العادية والطبيعية، تصبح شرعية في الظروف الإستثنائية ، إذا كانت ضرورية لتأمين النظام العام وحسن سير واستمرار المرافق العامةلا يجوز الاعتداد في الظروف الاستثنائية بمبدأ تصريف الأعمال بالمعنى الضيق، لأن مبدأ إستمرارية المرفق العام، يوجب على الحكومة ممارسة صلاحياتها كاملة في ظل هذه الظروف إذ أن عبارة المعنى الضيق تنتفي في ظل الظروف الإستثنائية ".

(مشار اليه فيمقالة الدكتور عقل عقل بعنوان: الظروف الإستثنائية والقانون الدستوري، منشورة في الكتاب السنوي – المجلد السادس 2012- للمجلس الدستوري ، ص. 207).

تأسيساً على ما تقدم،

وعلى وجه الخصوص فيما يعود للجيش وقائده كما تقدم،

ومن العودة الى النصوص القانونية المتعلقة بهذه المؤسسة العسكرية يتبيّن لنا أن لها شأنها شأن كافة الإدارات العامة سواءً الإدارية منها أم العسكرية ترتبط بالوزير المختص وفقاً لنصوصها القانونية العامة وفيما يعود لمؤسسات وزارة الدفاع الوطني فإنها تخضع لسلطة وزير الدفاع الوطنيحيث نصّت المادة /15/ المعدلة من قانون الدفاع الوطني الصادر بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 102 تاريخ 16/9/1983 على ما يلي:

تخضع وزارة الدفاع الوطني بجميع مؤسساتها لسلطة وزير الدفاع الوطني وهو مسؤول عن تنفيذ جميع مهامها ".

وتتألف المؤسسات الرئيسية للوزارة المذكورة من:

الجيش، المديرية العامة للإدارة، المفتشية العامة، المجلس العسكريالمادة 16 ق.د.)

ومن اللافت انه بعد قراءة هذه المواد أعلاه يتبين لنا ان هناك إشكالية قانونية او تساؤلات فيما يعود للتطبيق وخاصةً للجيش بالذات دون بقية المؤسسات الأخرى التي تتكون منها وزارة الدفاع الوطني ونعني بها المديرية العامة للإدارة والمفتشية العامة والمجلس العسكري، بإعتبار أن الجيش يتمايز عن بقية الوحدات الأخرى في وزارة الدفاع الوطني بمسألتين:

الأولى: ان المادة / 5/ من قانون الدفاع الوطني المعدلة بالمرسوم الاشتراعي رقم / 1 / تاريخ 26/9/1984 نصت على ما يلي:

"  يوضع الجيش بتصرف رئيس الجمهورية الذي يمارس صلاحياته وفقاً للأحكام المنصوص عليها في الدستور والقوانين النافذة ولا سيما المادتين 6 و7 من هذا المرسوم الاشتراعي ".

ومن العودة الى المادتين 6 و 7 نجد انهما تنصان على ما يلي:

  • المادة 6 المعدلة بالمرسوم الاشتراعي رقم 1 تاريخ 26/9/1984:
  • يقرر مجلس الوزراء السياسة العامة الدفاعية والأمنية ويعين اهدافها ويشرف على تنفيذها ".
  • اما المادة 7 المعدلة بذات المرسوم الاشتراعي والمرسوم الاشتراعي رقم39 تاريخ 23/3/1985 والقانون رقم 191 تاريخ 24/5/2000:

1- ينشأ مجلس أعلى للدفاع يتألف من:

  • رئيس الجمهورية             - رئيساً.
  • رئيس الوزراء                - نائباً للرئيس.
  • وزير الدفاع                  - عضواً.
  • وزير الخارجية               - عضواً.
  • وزير المالية                 - عضواً.
  • وزير الداخلية                - عضواً.
  • وزير الإقتصاد               - عضواً.

2- يحق لرئيس المجلس الأعلى للدفاع أن يستدعي من يشاء ممن تقضي طبيعة اعمال المجلس حضورهم..................................

اما المادة 11 من قانون الدفاع الوطني فقد نصت على أن:

يعتبر كل وزير مسؤولاً عما خص وزارته من مهام الدفاع والأمن وعليه تعميم التدابير اللازمة في شأنها والسهر على تنفيذها "

وعطفاً على المادة 15 من ذات القانون المعدلة والمشار اليها أعلاه، يتبين من المواد الواردة آنفاً ان السلطة في وزارة الدفاع الوطني تعود الى وزير الدفاع الوطني وفقاً لما حددته المادة 15 المشار اليها وبكل مؤسساتها، في حين جاءت المادة 5 من ذات القانون ونعني به قانون الدفاع الوطني جاءت لتنص على أن احدى هذه المؤسسات ونعني بها الجيش بإستثناء باقي المؤسسات كما جاء، يوضع بتصرف رئيس الجمهورية، وفقاً لما هو وارد اعلاه مما قد يثير تناقضاً في التفسير وتعارضاً في الصلاحيات قد ينعكس سلباً على عمل الوزارة والجيش فيها، وهو مسألة يترك أمر تنظيمها الى وزير الدفاع الوطني وقائد الجيش، على ضؤ ما عاشوه خلال خدمتهم العسكرية تحت شعار شرف تضحية ووفاء وبالتالي بتعاليهم عن أي معوقات قد تضر بالوطن وحسب ما استقر عليه الاجتهاد :

" ... بما أنه فيما يتعلق بتفسير القوانين يجب تفسير النصوص القانونية بصورة متوافقة  بعضها مع بعض، بدلاً من تعطيل مفعولها بتفسير نص بصورة غير متلائمة ومتجانسة مع النص الآخر وإلا جرّد هذا النص من مفاعيله.

وبما أن الطريقة العلمية لتفسير القوانين توجب توفيق النص المطلوب تفسيره مع سائر النصوص المتعلقة بذات الموضوع او بمواضيع متشابهة

R.D.P., Tome VII,V.Lois et Décrets, N.563

Fuzier-Herman, Répertoire du droit français,V.Lois et décrets, Tome 26,n. 359 “

( قرار مجلس شورى الدولة رقم471 تاريخ 23/4/1996 )

إلا أن كل ما تقدم يوجب عدم الإستطراد ببحث موضوع وزارة الدفاع الوطني وانما الجيش فقط لإنحصار المسألة في شغور مركز رئيس الأركان فيه أصلاً، وقرب تسريح قائد الجيش لبلوغه السن القانونية، الأمر الذي  يجعل مركز القيادة أيضاً بدون قائد. ومن العودة الى مهام قائد الجيش يتبين انه لا يجوز، ولا يمكن حتى في حالات السلم، التسليم بشغور هذا المركز لأي إعتبارٍ كان. ذلك ان مهام هذه القيادة هي وفقاً لما حددته المادة 20 المعدلة من قانون وزارة الدفاع الوطني ما يلي:

يتولى قائد الجيش إعداد الجيش للمهام الموكلة اليه ورفع مستواه القتالي وقيادة العمليات العسكرية وذلك يقتضي:

  • تنفيذ التطويع الاختياري والاجباري.
  • تنظيم القطع والوحدات وتحديد مهامها وادارتها.
  • تنفيذ عمليات التأهب والتعبئة عند إعلانها,
  • تحضير الخطط واوامر القتال ووضع البرامج اللوجستية لها.
  • استدراك حاجات الجيش والمحافظة على مستوى التجهيزات والأعتدة بعد تسلمها من الادارة العامة.
  • قيادة العمليات العسكرية.
  • قيادة العمليات الأمنية عندما يوكل الى الجيش مهام الحفاظ على الأمن.

بالإضافة الى كل ما تقدم تنص المادة 20 المذكورة على أن مديرية المخابرات ترتبط بقائد الجيش الا فيما يتعلق بالأمن العسكري فترتبط برئيس الأركان، وتزود رئيس مجلس الوزراء نائب رئيس المجلس الأعلى للدفاع بكافة المعلومات. يتبين من هذه المهام الجسام ان قائد الجيش هو بالنسبة للجيش كالجهاز العصبي المركزي بالنسبة للجسد الذي يموت على الأقل سريرياً من دونه، لأنه الدماغ والجسد معاً لهذا الجيش فهماً وتحليلاً وتوجيهاً وتدبيراً وتشكيلاً في القيادات والمراكز لكافة الضباط فيه وما إليه، وهو المشرف على كل نشاطاته وإعداده بل وقيادته في كافة عملياته العسكرية بكاملها وليس بجزءٍ منها فقط وقيادة العمليات الأمنية بما يعني انه هو لوحده فقط القوة الحامية بما يملكه من سلطة وامكانية لأمن الوطن، وإن شغور مركز قيادة الجيش غير مسموح قانوناً لأنه يصيب الجيش بالشلل ويعتبر تنكراً للوطن والمواطن، تعرض المسؤولين عنها للمساءلة المسلكية والقانونية على السواء، وفي أضعف الإيمان المساءلة الأدبية والمعنوية على أقل تعديل. الأمر الذي يوجب على قائد الجيش في حال لم تتم معالجة هذا الوضع من قبل الحكومة قبل نهاية خدمته لبلوغه السن القانونية، أقلّه بالتمديد له او تأجيل تسريحه لحين إنتخاب رئيس جمهورية او تعيين قائد جيش أصيل، وسنداً لمهامه المحددة في قانون الدفاع الوطني عليه واجب اختيار وتكليف من يراه مناسباً، إنطلاقاً من صلاحياته الادارية وواجباته العسكرية المناطة به قانوناً، لتسليم مهامه لضابط يختاره من الضباط الأكفاء الذين يرى فيهم الجدارة اللازمة للقيادة، وذلك عند تقاعس الادارة عن أداء مهامها لسببٍ او لآخر . لأن شغور مركزه غير جائز كما تقدم، وإنطلاقاً من السلطة الاستنسابية العائدة له قانوناً، وخلال هذا الظرف الإستثنائي العام، خاصةً عند تقصير السلطة التنفيذية المختصة في تلافي ومعالجة وضع الشغور قبل حصوله، لأنه لا يجوز واقعاً وقانوناً. وبالتالي عليه التصدي لهذه الثغرة الادارية لأن الجيش بعهدته وأمانة في عنقه، وواجبه هذا مبرر من خلال وضعه القانوني وسلطته كمسؤول عن نشاط الجيش، ووفقاً لما قرره مجلس شورى الدولة منأنه:

إذا كانت الادارة حرة ان تتخذ التدبير الذي تراه مناسباً لمواجهة ظروف واقعية معينة، إلا أنه يجب عند ممارسة تلك السلطة ان يرتكز قرارها على وقائع ثابتة وصحيحة "

( قرار مجلس القضايا في مجلس شورى الدولة رقم 301 تاريخ 23/3/1994، المنشور في مجلة القضاء الاداري، العدد الثامن للعام 1994)

وفي هذه الحالة، وإستناداً الى نظرية الموظف الفعلي أو الواقعي الذي أقرّها الإجتهاد الاداري في فرنسا ولبنان تكون كافة اعمال الضابط المختار في حال تكليفه قانونية ونافذة حتى صدور نص قانوني وفقاً للأصول بالتمديد او بتأجيل تسريح قائد الجيش الحالي إستناداً الى ما قرره الفقه والاجتهاد الدستوري والاداري حسب ما تقدم أعلاه، أو بتعيين قائد آخر وقد استقر الاجتهاد الاداري على هذا المنحى فأورد في هذا الصدد:

"... وبما أن الإجتهاد قضى بأن تعيين الموظف حتى بصورة مخالفة للقانون يوليه صلاحيات الوظيفة التي عيّن فيها، وذلك حتى ابطال هذا التعيين.

“ A la supposer irrégulière, tant qu’elle n’est pas annulée la nomination d’un fonctionnaire produit ses effets normaux et notamment attribu les compétences propres à l’emploi (C.E. Nicod, 21/11/1934)

Alain Plantey, la fonction publique, Traité général, Litec, éd. 1991,p. 246 . N. 547…

( قرار مجلس شورى الدولة رقم 332 تاريخ 29/1/2008، المنشور في مجلة القضاء الاداري في لبنان، العدد 24، للعام 2016، ص.464).

وقد أكّد الإستاذ الدكتور ميشال ثابت ان نظرية الموظف الفعلي تلعب دورها ايضاً خلال الظروف الاستثنائية:

“ La théorie du fonctionnaire de fait est aussi susceptible de jouer en période de circonstances exceptionnelles: elle repose alors sur les idées de nécessité et de continuité du service public. “

Michel Tabet, la carrière du fonctionnaire en France et au Liban

(Etude juridique) Tome III ,p. 205., Faculté de droit et des sciences politiques, U.S.J. Beyrouth 2021.

ذلك أن من واجب السلطة التنفيذية على كافة مستوياتها، الحفاظ على مصلحة الوطن العليا، حتى ولو أدى هذا الأمر الى مخالفة القانون وحتى الدستور ( كما تبين لنا أعلاه من خلال الفقه والاحكام الدستورية والادارية المشار اليها اعلاه) وكما أكده وقرره اجتهاد حديث جداً للمجلس الدستوري صدر هذا العام والذي ابقى فيه على قانونٍ مطعونٍ فيه بالرغم من مخالفته للقانون الدستوري ، وذلك حفاظاً على استمرارية المرفق العام، وقد جاء في متن هذا القرار:

"... حيث أن الدستور هو القانون الأسمى في الدولة، هدفه انتظام عمل المؤسسات الدستورية من أجل إستمرارية المرافق العامة في تسيير شؤون المواطنين، وإستناداً الى هذا الهدف..........

وحيث أن دخول البلاد في وضعٍ شاذ وغير مألوف، كما هو الحال في الوقت الحاضر، يملي على المجلس الدستوري ان يوازي بين الضرر الناجم عن المخالفة الدستورية وبين الضرر الناجم عن الإبطال الذي يمّس مبدأ إستمرارية المرفق العام ذي القيمة الدستورية حفاظاً على مصلحة البلاد العليا الذي ُوضع الدستور من أجلها.....

وحيث أنه يقتضي إتخاذ إجراءات إستثنائية بغية الحفاظ على الإنتظام العام ذي القيمة الدستورية،

وحيث أنه منعاً لتفاقم الفراغات، ولأجل إستمرارية المرافق العامة

يقرر.........

عدم إبطال القانون المطعون فيه عملاً بمبدأ استمرارية المرفق العام ذي القيمة الدستورية".

( قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم 6/23  تاريخ 30/5/2023 )

لذلك،

على السلطة التنفيذية، وعلى الأخص وزير الدفاع الوطني لأن المسألة تنحصر في وزارته بالذات، وقائد الجيش فيما خصّ قيادته وضباطه وجنوده، أمر معالجة الوضع على ضؤ ما تقدم وبأقصى سرعة ممكنة، مستوحين في عملهم هذا المصلحة العامة دون سواها، في ظل ألأوضاع المضطربة التي يعيشها الوطن  داخلاً وخارجاً، لأن الواجب الوطني يقضي بالإطاحة بكافة العوائق والآراء والنظريات التي تحول دون تأمين استقرار للوطن وحمايته من أية إشكالية.

بيروت في 8/12/2023

بقلم المحامي وليد نورالدين الخطيب

شارك هذا المنشور